مَاراتُون..

إبراهيم رحمة؛ 'الماراتون؛ سأفوزُ فيه؛ سأفوز؛ نعم سأكونُ الفائزَ من بينهم جميعا'؛ ظلّ يُحَدِّث نفسَه في إصرار؛ والسباق على وشك الانط...



إبراهيم رحمة؛


'الماراتون؛ سأفوزُ فيه؛ سأفوز؛ نعم سأكونُ الفائزَ من بينهم جميعا'؛ ظلّ يُحَدِّث نفسَه في إصرار؛ والسباق على وشك الانطلاق؛ كان يُشاكِسُ مَنْ حولَه في الأيام الأخيرة ويَتَحدّى؛ تَمَرّن جيّدا؛ تَغَذّى؛ وراقبَ كلَّ صغيرة وكبيرة؛ انتبه إلى جسمه؛ قوامه؛ رشاقته؛ انتبه مُحافِظا على كل ما يَضْمَن له النجاحَ؛ كان يُقدِّم دروسا حول البقاء في فلسفةٍ؛ كان يقول: 'إنني سأفوز فأنا أُمثِّل التّطوُّرَ المُوجَّهَ بينكم وعليّ أن أحقِّقَ تَحوُّلاتٍ كبرى كي أتابع مسيرتي من الأبسط إلى الأعقد بُنْيَةً ومن الأقلّ إلى الأكثر أداءً وكفايةً؛ لا أريد أن أظلَّ على حالتي؛ هذه النّيةُ لن تكونَ إلا حقيقةً'؛
رطوبةٌ مُرتفِعةٌ مُتَشبِّعة بالأحماض؛ ومع الحرارةِ يكونُ الجوُّ لَزِجًا لا يُلائمُ الحياةَ في حدِّ ذاتِها؛ إلا أنّ هذا الجوَّ الرّهيب لم يمنع تنظيم الماراتون؛ وعلى العكس تماما فقد تَقَدَّم إلى المشاركة عددٌ كبيرٌ يفوقُ الحصْرَ؛ وكل واحد بين المتقدمين يطمح إلى الفوز؛
اقتربَتْ لحظةُ القذيفةِ التي تكونُ سببًا في انطلاقِهِ وإيذانًا؛ يَعُمُّ الصمتُ؛ ألا بُدَّ أن يكون الصمت سابقا لكل انبعاثٍ ولكل حركةٍ؟.
ينظرُ يَمنةً ويسرةً؛ ينظر خلفه؛ تَمَنَّى لو أنه وحده فلا ينافسه أحد؛ إلا أن النفس لا تجد ما تَرْتضيه دائما؛ فقد ملأ أمثالُه المسارَ المُحدَّدَ للسّباقِ؛ في ذات الوقت لا يُبالي؛ يَبْلُغُ إصرارُه مَداهُ؛ يستعدُّ مثلما يستعدُّ الجميعُ؛ يتقلّص؛ ينكمش؛ يفعل الجميع فِعْلَه من غير تنسيق بينهم أو اتفاق مُسْبَق؛ إنّ الأقوى بينهم والأجدرَ هو الذي يَبْلُغُ خطَّ النهاية ويقتحم الشارة بمقدمته؛ هذا قانون الحياة؛
تَحْدُثُ القذيفةُ؛ تُدَوِّي في المكان؛ ينهمر المتسابقون في دَفْقٍ هائل؛ من يسبق غيرَه بِجُزءِ خُطوةٍ لحظةَ الانطلاق يكون له الحظ الأوفر فيبتعد تاركا البقية وراءه؛
تَخَلَّف كثيرٌ منهم في المراحل الأولى؛ بين المسافة والأخرى ينسحب من يجد قصورا فظيعا في أدائه؛ ويتخلى عن السباق من تَخُونُه الإرادة والقوة؛ كان من الطبيعيِّ انسحابُ كثيرين وسط جوٍّ رطْبٍ حامضٍ لَزِجٍ وحارٍّ؛
بنظرة جانبية ينتبه إلى الذي يحاول تجاوُزَه؛ يُصِرُّ فلا يسمح له بذلك؛ يستنزف كلَّ ما فيه من قوة؛ لقد قرر أن يكون الفائز؛ ولا فائزَ اليوم غيره؛ هذه فرصته كي يُثْبِتَ ذاتَهُ؛ ويُؤكّدَ للكل جدارتَهُ؛ هي مرة لن تتكرر؛ وليست في مقدوره إضاعتُها؛ فيتجاوز المتسابقين؛ انسحب من انسحب؛ وسقط في مسار الماراتون من سقط؛ كما تهالك من تهالك دون جدوى؛ إلا أنه وبإرادته العجيبة تَقَدَّمَ الجميعَ؛ وبدا مِن بعيدٍ آخِرُ انعطافٍ؛ بَعدَه لا تكون غير النهاية ولا تكون غير المسرة؛ يشعر أنّ جسمَه طائرٌ؛ لم يعد يشعر بكتلته أو بالانجذاب ناحية الأسفل؛ وجد ذاتَه مثل هَبَاءٍ أو هُيُولى؛ لم يعد يشعر بِمَن حوله؛ زاد من سرعته؛ حياته مُتوقِّفة على هذا الماراتون؛ قبل يومين وهو يتحدى أحدَ الأصحاب؛ والذي لم يجد أثرَهُ الساعةَ؛ ذَكَرَ أنّ الحياةَ لحظةُ فوزٍ؛ ضَحِكَ من كان معهما؛ وتَحَوّل الضحكُ إلى قهقهات صاخبة؛ لامَهُم على تقاعسهم وتخاذلهم؛ هو لا يريد أن يَشِيخَ مثلَ أولئك الذين لن يشاركوا في الماراتون ويُصِيبُهُ ما أصابَهُم من لعناتٍ ثم ينتهي نهايةً بائسةً فلا تكونُ له بصمةٌ في حياةِ الآخَرين ودُنياهُمْ؛ هو لا يريد أن يمضي نكِرة لا أوّلَ له ولا آخِرَ؛ لذا انزوى جانبا؛ ازدرى الجميعَ مثلما هو يزدريهم الآن؛ أخيرا سيُثبِتُ لهم قوّتَهُ وجدارتَهُ؛
آخِرُ المسافةِ؛ هو الشطر الفاصل؛ يستميت؛ لم يَتَبَقَّ غيرُ خطواتٍ؛ يظلُّ أوّلَ المتسابقين؛ يستميت كي يكون أوّلَ الواصلين؛ أحدُهم يُلامِسُه؛ يَلْحَقُ به؛ يَضْرِبُ بِجِسْمِهِ في الهواء؛ يَنْفَلِتُ حدَّ الفناء؛ لا يَتْرُك للمنافس فُسْحةَ أمَلٍ يَتَجاوزُه فيها؛ يُخَلِّفُه وراءه؛ فَيَظلَّ أوّلَ المتسابقين؛ لهاثُه يزدادُ؛ يَتَضاعفُ انكماشُه؛ يَتَقلّصُ أكثرَ؛ تزداد سرعتُه؛ هي الخُطواتُ الأخيرةُ؛ يدفعُ جسمَه؛ كمن يَتَحرّر من الجاذبية؛ ارتماءٌ عنيفٌ منه يُؤكِّدُ فيه أحَقِّيَّتَهُ بالسّباقِ؛ ولا تكون هذه الأحقيةُ إلا عند مُلامستِهِ خطَّ النّهايةِ؛ يرتمي؛ يستطيل حتى تُلامِسَ جبهتُه شارةَ النّهاية؛ ارتمى؛ اعتقد أن جسمه لامس الشارة قبل أن يفيق من الارتماء ويتلاشى بعض أثر الصدمة؛ غير أنه وهو يفيق يجد جسمه على الأرضية ممددا؛ وقد سقط مثل المنسحبين قبله؛ أولئك الذين كان يتحداهم في عنجهية صفيقة؛ وتجاوزه غيرُه دون أدنى انتباه له؛ كان آخِرُ كلماتِهِ يقولُ 'مستحيل أن أخسر رهان الحياة؛ مستحيل'؛ كان يرى في ذات اللحظة أحدَ مُنافسيه يرتمي على الشارة المنتصبة عند النهاية ويقتحمها برأسه مؤكدا جدارته بالفوز؛ بينما سقط البقية في بئر الخسارة؛
قبل نهايته وهو مُمَدَّدٌ على الأرضية تناهى إليه صوت؛ ألا بُدّ أن يَعُمّ الصوتُ المكان وخارج المكان؛ فيلغي الصمتَ بعد كلّ حَرَاكٍ؛ إلا أنه وعلى غير العادة لم يُمارس هوايةَ السّؤال المجبولِ عليها؛ تناهى الصوت؛ لم يَتَبَيَّنْ مَصْدرَهُ؛ لم يكن من الذين حضروا السباق؛ أصاخ بسمعه؛ وَجَدَهُ يقول:
'أخيرا يا دكتور نجحنا؛ لقد وصلت النُّطفةُ اللازمة إلى البويضةِ وتَمَّت عمليةُ التلقيح؛ انتهى الماراتون'.


بسكرة في: 22 أوت 2009

التعليقات

تعليقات المدونة: 2
  1. ب فايزة ..
    هو مفهوم جديد لفلسفة البقاء لللأقوى أم الأصلح ..؟
    و هو أيضا مفهوم مغاير لمعنى الحياة ؛
    كم نحن صغار أمام مشيئة القدر و كم نحن حمقى عندما نقرر المواجهة في زمان غير زماننا و في مكان غير مكاننا .. نكون ردة فعل عابثة لفعل أكبر منا .
    بوركت يا أستاد ابراهيم رحمة .. و بوركت الأم التى أنجبتك .
    تحياتى

    ردحذف
  2. الأستاذة "فايزة" لحضورك الألق ومشاركتك تزيد في مفهوم النص؛
    لك امتناني العميق لتفاعلك الدائم؛
    دام ظلك؛

    ردحذف

الاسم

الترجمة,1,الخاطرة,1,الشعر,2,القصة,3,المقالة,4,كتب تعجبني,1,نصوص تعجبني,1,
rtl
item
أيقظوا الحلم أريد أن أنام..: مَاراتُون..
مَاراتُون..
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjRp-xsif1M6xRRaS7DLCiNaxrdNVZj9YMU68e4ygoWSKkePsUzrYPsohhin8tzehyeDt7MR6lNQOdApxo1KeabL4wLdgeuPZlnmIXtawqWXznh1MBRRBN44_Y3Yn8KWgrG2ZBGQjA7y7wK/s320/marathon.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjRp-xsif1M6xRRaS7DLCiNaxrdNVZj9YMU68e4ygoWSKkePsUzrYPsohhin8tzehyeDt7MR6lNQOdApxo1KeabL4wLdgeuPZlnmIXtawqWXznh1MBRRBN44_Y3Yn8KWgrG2ZBGQjA7y7wK/s72-c/marathon.jpg
أيقظوا الحلم أريد أن أنام..
http://manamate.blogspot.com/2010/04/blog-post_8364.html
http://manamate.blogspot.com/
http://manamate.blogspot.com/
http://manamate.blogspot.com/2010/04/blog-post_8364.html
true
6306355139612511331
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ