الناس دائما يضحكون../إبراهيم رحمة.

جلستْ قُبالتَه، كان الكورنيش ساعتها مزدحما بالسُّياح الأجانب كما كان مزدحما بأهل البلد.. وكان بعضُ باعةٍ يَعْرضون مَبيعاتهم من هدايا وتِ...


جلستْ قُبالتَه، كان الكورنيش ساعتها مزدحما بالسُّياح الأجانب كما كان مزدحما بأهل البلد.. وكان بعضُ باعةٍ يَعْرضون مَبيعاتهم من هدايا وتِذْكارات، كان بينهم أيضا بائعُ البوظة، هذا الذي لا يستغني الكبارُ عنه في هذا الفصل كما الأطفالُ تماما، ولم يَكُ قد تَبَقّى من الصيف غيرُ بِضْعةِ أيّامٍ سَتَمضي حَتْما مِثل سابقاتها، هكذا ذَكَر لها متفائلا، هو دائمُ التفاؤلِ لا يَمَلّه في زمنٍ اِرتسمَتْ فوق جدرانه كلُّ آياتِ العَتْمةِ..
قال لها إنّ الأيام ستمضي مِثلَ سابقاتها، أكيدٌ مِن أنّنا سنجد فيها الشمسَ الزاهيةَ والبحرَ الهادئَ وكذا اللَّونَ الأخضرَ، فَمِثلما اللّونُ الأخضرُ وجهٌ لهذه اللّوحةِ الفُسَيْفِسائيةِ بِمُحاذاتِنا، سيكونُ وَجهًا لحياتنا، لِمَنابِت الحُلمِ عندنا.
وهي جالسةٌ قُبالَتَه تَتأمّل عينيه الحالمتين، لم تَدْرِ لِمَ تَذكّرت هكذا فجأة، وجهًا لطيفًا عزيزًا عليها قريبًا إلى قلبها، قريبا جدا، تَذكرت وجهَ أمّها، هي لم تَنْسَ أمها يوما ولا لحظةً مِن  ليلٍ أو نهارٍ، إنما الآن وهي في غمرة التَّجَلّي بينها وبينه ولحظةَ البَوحِ الجميلِ، بَدَا الأمرُ غريبًا، ربما لأنه ذكر لها اللونَ الأخضرَ، عادةً عندَ عَتَباتِ البحرِ وتحت سماء شهر آب يتذاكر الناس اللون الأزرق، غير أنّ هذا المتمرد عند عتباتها يَتذكّر اللونَ الأخضرَ، أمها تعشق اللون الأخضر، لأجل ذلك لا تزال ابنتها تحتفظ بمزهريات الفل والياسمين في شرفتها، وعند كل صباح تقف تتأمل الخضرة بعينين حالمتين.
قبل عشرين سنة، لم يكن سِنُّها قد تجاوز السبعة أعوام، في تلك الأمسية – أمسية لم يَكُ يُمَيّزُها عن باقي الأمسيات شيء- كان كل ما أمامها نور خافت، سريرٌ قُربَهُ طاولةٌ صغيرةٌ، ومجموعةُ أعمدةٍ وأنابيبَ وأبٌ تَفرّ من عينيه بضعُ دَمْعاتٍ يائساتٍ، لم تَكُ تدرك ساعتها أنها في غرفة إنعاش لم تك تعرف غير أنها في المَشْفى، عقل الطفلة الحالمة الصغيرة لا يدرك أبدا وبأي حال من الأحوال أنه وجها لوجه أمام الموت، هي أيضا لم تك تدرك بأي حال من الأحوال أنها وجها لوجه أمام الموت، حتى وإن تناهت إلى أذنيها كلمات ممرضة إلى زميلتها تقول فيها أن الورم انتشر في كامل الجسد، ربما كانت كلمة ورم عندها مثل كلمة حلوى، لقد كانت تنظر إلى الدنيا وملء فيها أجمل البسمات، لذا لم تفهم دمعات أبيها اليائسات أمام ذلك الجسد الممدد فوق سرير رداؤه أبيض، متميزا بهذا الرداء عن سريرها الذي يغطيه رداء بلون أخضر قد تم زرعه بمجموعة من زهر الفل وورق الياسمين، كان هذا الرداء من اختيار أمها -هذا الجسد الممدد-.
بعد بضعة أيام لم تعد تجد قربها ذلك الجسد الممدد، ولم تعد تجد البسمة الحالمة، بسمة ذلك الجسد الممدد، لم يبق غير فسقية بلون الطفولة عند مدخل المنزل فيها العشب الأخضر، وآنية الفل والياسمين في الشرفة، تظل البنت دائما تحن إلى وجودِ أمٍّ حتى وإن كان كل ما بقربها يحتويها ويمنع عنها الألم، يظل بعضُ ألمٍ في الداخل، داخل الأنا، وكتمت سُهى – اسمها سُهى- بعضَ ألمٍ ظلّ داخلها.
عشرون سنة، لم تكن كافية لنزع فتيل الألم، ربما أحيانا يورق، يتفاقم خطره، حتى وهي جالسة قبالته في هذه اللحظة المقتنصة من الزمن، تجد أيضا بعض ألم بل وبعض الوجع، كان هو أمامها كل الوجع، وكانت تجد نفسها في عينيه الحالمتين، لأول مرة تجد نفسها في عينين حالمتين، مثلما كانت تجد نفسها في عيني "براءة" -براءة هو اسم أمها- ويا للعجب، قميصه الذي بلا أكمام كان قميصا ذا لون أخضر، ويا للعجب، هي أيضا كانت تتّشح بِشالٍ أخضر.
قال لها ذات مُهاتَفَةٍ ليليّةٍ، أن الناس دائما يضحكون، حتى في قمة الحزن يعرف الناس كيف يضحكون - قمة الوجع تُضحِكنا ساعات الأنّة -.
ضحكت، نظر إليها وهي تضحك، فهمت أنه تفاجأ من ضِحْكتِها التي بدت غير مبررة، قالت له:
أنت مجنونٌ حقًّا.
فهِمَ لماذا هو مجنون حقا، مجنون لأنه قطع مسافة أربعة آلاف مَيلٍ قَصْدَ هذه الجلسة عند الكورنيش –إنها أول جلسة تجمعهما-، وحقًّا لأنه قصدها دون سابقِ معرفةٍ ولو بوجهها، عَشِقها عن سَماعٍ فقط، وعاد هو هذه المرة بذاكرته عشرين يوما إلى الوراء.
عشرون يوما، كانت كافية كي يقرر مغادرة مناطق الوجع داخله، تَعرّف إليها عن طريق حُلْم هارب في جريدة، عرف كيف يتصل بها، كما أن جميل رئيس تحرير الجريدة يمتلكه، ثم كان أن اكتشف تضاريسها، واكتشفت تضاريسه، واكتشفا أنهما حياة واحدة تمشي على الأرض غير أن هذه الحياة كانت منقسمة شطرين، كل شطر في أرض بعيدة، ومن يومها صار يفهمها حتى قبل أن تتكلم، من يومها صارت تفهمه حتى قبل أن يتكلم، كل هذا لم يكن إلا مهاتفة، آه يا قيسُ لو كان معك الهاتف، كيف كنت تُواعد ليلى؟.
كاد يغمى عليها عندما رنّ هاتفها هذا الصباح، كانت الساعة العاشرة، قال لها أنا في أرضك، قالت له أنت تمزح؟، قال لها أنا مجنون، قالت له أنت كذلك حقا؟، قال لها وقالت له، تسارعت الكلمات، لم يك يَدْرِي ما يقول، لم تَكُ تَدْرِي ما تقول، وهي تغادر إلى الكورنيش ألقت نظرة على شرفتها، ألقت نظرة على الفل والياسمين، ضحكت وقالت إنه مجنون حقا، لم يُعلِمني حتى بقدومه، من أكد له أنني لستُ مَحْض خيال؟، من؟، واستيقظ سؤال أرهقها جوابه، تساءلت: هل ثمّة في زماننا مثله؟، أرهقها السؤال مُذْ دخل عالمها دون استئذان، ثم راح يرسم لها الحلم الذي قررت تجاوزه ذات أمسية لم يَكُ يميزها عن باقي الأمسيات شيء-.
جلست قبالته، كان الكورنيش ساعتها مزدحما بالسّياح كما كان مزدحما بأهل البلد.. غير أنه لم يَكُ منتثرا حولهما غير اللون الأخضر، اختفى كل السيّاح فجأة، اختفى كل أهل البلد، اختفى بائع البوظة كذلك، عندما قالت له آمنت بك وقال لها آمنت بك، كان الاختفاء وفق طريقة غريبة لم يتم استيعابها لحد الساعة.
ربما أنا لا أفشي سِرّا إذا ما ذكرت لكم أن البحر اختفى أيضا.
لا أفشي سرا إذا ما ذكرت لكم أن "براءة" كانت غيرَ بعيدٍ تَتَأمّلُهُما بعينين حالمتين.
ببسكرة في: 08-08-2008

التعليقات

تعليقات المدونة: 1
  1. أدام الله حرفك فلا تغيب عن الساحة
    كعادة نغوص بين الكلمات والعبارات
    فبدل أن نقرأ نتعايش الأحداث
    وتتجسد لنا الأمكان والأشخاص فنغوص أكثر فأكثر
    فعلا بارع في الرسم
    لأنك بدل أن تكتب فقط قمت برسم وتحريك القصة
    فأقف أماإختيارك... للون الأخضر ..
    وأقف مرة أخرى أمام..قالت له آمنت بيك وقال لها آمنت بيك ..
    كم انت مميز ننتظر الجديد
    ....دامت أيامك خضراء..

    ردحذف

الاسم

الترجمة,1,الخاطرة,1,الشعر,2,القصة,3,المقالة,4,كتب تعجبني,1,نصوص تعجبني,1,
rtl
item
أيقظوا الحلم أريد أن أنام..: الناس دائما يضحكون../إبراهيم رحمة.
الناس دائما يضحكون../إبراهيم رحمة.
أيقظوا الحلم أريد أن أنام..
http://manamate.blogspot.com/2018/02/blog-post.html
http://manamate.blogspot.com/
http://manamate.blogspot.com/
http://manamate.blogspot.com/2018/02/blog-post.html
true
6306355139612511331
UTF-8
تحميل كل الموضوعات ليس هناك أي موضوع مشاهدة الكل تابع القراءة تعليق مسح التعليق حذف الناشر الرئيسية الصفحات الموضوعات مشاهدة الكل اقرأ أيضا قسم أرشيف ابحث كل الموضوعات لم يتم إيجاد موضوع يطابق بحثك عودة إلى الرئيسية الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان جويلية أوت سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر اللحظة قبل دقيقة $$1$$ قبل دقيقة قبل ساعة $$1$$ قبل ساعة أمس $$1$$ قبل يوم $$1$$ قبل أسبوع قبل أكثر من 5 أسابيع متابعون تابع محتوى مشروط اضغط لفك التشفير انسخ الكود ظلّل الكود تم نسخ الكود في الكيوبرد لم يتم نسخ الكود/ النص, اضغط [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) للنسخ